في زمن تتزايد فيه التحذيرات من تغير المناخ، تظل الجيوش حول العالم خارج دائرة الحساب البيئي، رغم كونها من أكبر المساهمين في الانبعاثات الكربونية، فالحروب لا تخلّف دمارا بشريا وماديا فقط، بل تدمّر البيئة وغلافنا الجوي، وتدفع بقوة نحو المزيد من الطقس المتطرف.
وكما تلتزم الدول بخفض انبعاثات الصناعات المدنية وفق اتفاق باريس للمناخ، لماذا تبقى الجيوش خارج نطاق هذا الاتفاق، وإلى متى ستبقى محصّنة ضد المساءلة وحسابات البصمة الكربونية؟
في عام 2015، خرج للنور أول اتفاق دولي ملزم بضرورة الحفاظ
على مناخ الأرض من أجل الأجيال المقبلة، وهو اتفاق باريس للمناخ، الذي تم اعتماده
في خلال مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب21).
ويهدف اتفاق باريس إلى الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى
أقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة، مع السعي لخفضها إلى 1.5 درجة
مئوية.
وكذلك يُلزم الاتفاق الدول بتقديم خطط وطنية لتقليل انبعاثات
الغازات الدفيئة، وتحديثها كل خمس سنوات، كما يدعو إلى تعزيز التمويل للدول
النامية لمساعدتها على التكيف مع آثار التغير المناخي.
لكن، على مدار كل هذه السنوات وهذا الكم من مؤتمرات المناخ،
ونحن على مشارف مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب30) في البرازيل، ورغم شمولية
اتفاق باريس، إلا أن الاتفاق لا يُلزم الجيوش بتقارير أو تخفيضات محددة
لانبعاثاتها.
وفي خضم التحديات البيئية المتصاعدة التي يواجهها العالم،
تبرز الحروب والصراعات العسكرية كأحد أكثر المصادر المنسية لانبعاثات الكربون، رغم
تأثيرها العميق والمدمّر على المناخ.
فبينما تنصب الجهود الدولية على تقليل الانبعاثات في
القطاعات المدنية كالصناعة والنقل والطاقة، تظل الجيوش والمؤسسات العسكرية خارج
كثير من آليات المحاسبة البيئية، رغم مسؤوليتها عن نِسَب ضخمة من انبعاثات الغازات
الدفيئة.
وتستهلك الجيوش حول العالم كميات هائلة من الوقود الأحفوري
في تحريك الطائرات، والسفن، والدبابات، والمركبات القتالية، إلى جانب تشغيل
القواعد العسكرية والبنى التحتية الضخمة.
وتُعد الولايات المتحدة، على سبيل المثال، من أكبر المساهمين
في الانبعاثات العسكرية، إذ تفوق انبعاثات جيشها السنوية تلك الصادرة عن دول كاملة
مثل السويد أو البرتغال.
وفي عام 2023، أهدى مرصد الصراع والبيئة البريطاني و7 منظمات
دولية هدية للعالم في ظني أنها لم تتكرر، وذلك حينما أفصح للمرة الأولى عن حجم
الانبعاثات العسكرية في العالم، وقال إن الجيوش حول العالم مسؤولة عن 5.5% من
انبعاثات الغازات الدفيئة، بخلاف الانبعاثات الناجمة عن الحروب والصراعات، وهو رقم
أكبر بكثير من الـ5.5% المذكورة آنفا، فالجيوش تُعد من أكبر مستهلكي الوقود
الأحفوري، ولديها سلاسل إمداد كبيرة ومعقدة، ما يجعلها مصدرا رئيسيا للانبعاثات.
وكذلك ترتبط الانبعاثات العسكرية بالميزانيات العسكرية
للبلدان، والتي سجّلت أكثر من تريليوني دولار سنويا في 2023. وبعد إعلان الناتو
زيادة ميزانيته، كذلك الولايات المتحدة الأميركية، فإن هذا الرقم قد يكون تضاعف في
2025 ومرشّح للزيادة في السنوات الخمس المقبلة.
وإذا نظرنا للتكتلات الاقتصادية الكبرى حول العالم فسنجد أن
دول مجموعة العشرين وحدها تستحوذ على 87% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي، وهذا
يضعها على قائمة المستهدفين للإنفاق على قضايا المناخ والحد من الاحترار، لكنها
ووفق جميع الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمناخ محصّنة، أو بالأدق مستثناة، من
التزامات اتفاق باريس، وهنا أعني بند التسليح والإنفاق العسكري.
لم تساعدني الأرقام والإحصائيات التي لم تكن موجودة أثناء
الحرب العالمية، لا الأولى ولا الثانية، في رصد حجم الانبعاثات الكربونية لها نظرا
لظروف تلك الفترة الزمنية من تاريخ العالم، لكن أرقام الحروب الحديثة منذ غزو
العراق للكويت سهّل رصدها وحساب الانبعاثات الكربونية لها ولو بشكل تقريبي، حيث
تُشير التقديرات إلى أنها خلّفت نحو 250 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
أما الحرب الأميركية في أفغانستان والعراق، فقد خلّفت نحو
440 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون بين عامي 2001 و2018، فيما خلّفت الحرب
الروسية الأوكرانية أكثر من 100 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في أول 15
شهرا لها، وقد يصعد هذا الرقم لأكثر من نصف تريليون طن من الكربون في فبراير
المقبل.
أما العدوان الإسرائيلي على غزة، فتُشير التقديرات إلى أنها
خلّفت انبعاثات تعادل الانبعاثات السنوية لـ102 دولة منفردة، بحسب باحثين أميركيين
وأوروبيين، فيما لم تُعلن أيّ جهة حتى اللحظة عن حجم الانبعاثات الناتجة عن حرب
الـ12 يوما بين إسرائيل وإيران، ولكن بحسابات بسيطة لو نظرنا إلى نموذجين فقط من
الصواريخ التي استخدمت في تلك الحرب سنجد أن إيران أطلقت نحو 550 – 950 صاروخا
باليستيا وألف درون، بينما قامت إسرائيل بأكثر من ألف طلعة جوية، وحسابيا نحو 40
ألف طن مكافئ من ثاني أكسيد الكربون خلّفتها الضربات الصاروخية فقط، بخلاف
انبعاثات الدرون والطائرات والقنابل.
وبعيدا عن تعقيدات الأرقام الخاصة بالانبعاثات العسكرية التي
قد لا يهتم بها الكثير منا رغم أنها سبب أصيل في تفاقم الطقس المتطرف الذي نعيشه،
يسعى الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، لارتداء ثوب السلام عبر ”نوبل للسلام“، رغم
انسحاب الولايات المتحدة مرتين من اتفاق باريس للمناخ في ولايتيه. وليس هذا فحسب،
فالجميع يعلم أن أميركا هي صاحبة النصيب الأكبر من المخلّفات الكربونية للحروب في
العالم خلال الخمسين عاما الماضية، غير أن قيادة ترمب غير معنية بتمويل قضايا
المناخ.
وفي 14 يونيو الجاري، حضر ترمب عرضا عسكريا في الذكرى الـ250
لتأسيس الجيش الأميركي بمشاركة أكثر من 150 مركبة و50 طائرة، بتكلفة بلغت 45 مليون
دولار، وخلّف هذا العرض انبعاثات كربونية بنحو مليوني كيلوغرام من الكربون، ما
يعادل تشغيل 300 منزل سنويا.
في ظني، إذا استمر العالم بمعادلة ”أمن مكلف بيئيا = سلام
بيئي“، فلن يتحقق أيّ منهما بشكل مستدام. نعم، يجب أن نحارب لتدمير أسلحة الدمار
الشامل، لكن ليس على حساب تدمير مستقبل الأجيال المقبلة.
بقلم: أيمن صالح – سي إن إن الاقتصادية
عن/ منصة مناخي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
بيئتي BEAATY